عن حذيفة: إنهقدم من عند عمر، قال: لما جلسنا إليه أمس سأل أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم- أيكم سمع قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الفتن؟فقالوا: نحن سمعناه، قال، لعلكم تعنون فتنة الرجل في أهلهوماله، قالوا: أجل، قال: لست عنتلك أسأل، تلك يكفرها الصلاة والصيام والصدقة؛ولكن أيكمسمع قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الفتن التي تموج موج البحر؟ قال: فأمسك القوم وظننت إنه إياي يريد، قلت: أنا؟ قال لي: أنت لله أبوك،قال: قلت : تعرض الفتن على القلوب عرض الحصير، فأي قلبأنكرها نكتت فيه نكتة بيضاء، وأي قلب أشربها نكتت فيه نكتة سوداء حتى يصير القلبعلى قلبين: أبيض مثل الصفا لا يضره فتنة ما دامت السماواتوالأرض، والآخر أسود مربد كالكوز مجخًيا، -وأمال كفه-، لا يعرف معروفًا، ولا ينكرمنكرًا؛إلا ما أشرب منهواه."..... فشبه عرض الفتن على القلوب شيئًا فشيئًا كعرض عيدان الحصير وهيطاقاتها شيئًا فشيئًا، وقسَّم القلوب عند عرضها عليها إلى قسمين: قلبٌإذا عرضت عليه فتنة، أشربها كما يشرب السفنج الماء،فتنكت فيه نكتة سوداء، فلا يزال يشرب كل فتنة تعرض عليه حتى يسود وينتكس، وهو معنىقوله: (كالكوز مجخيا)، أي: مكبوبًا منكوسًا، فإذا اسودوانتكس عرض له من هاتين الآفتين مرضان خطران متراميان به إلى الهلاك،أحدهما:اشتباه المعروف عليه بالمنكر، فلا يعرف معروفًا ولاينكر منكرًا، وربما استحكم عليه هذا المرض حتى يعتقد المعروف منكرًا والمنكرمعروفًا، والسنة بدعة والبدعة سنة، والحق باطلاً والباطل حقًّا. الثاني:تحكيمه هواه على ما جاء به الرسول -صلى الله تعالىعليه وآله وسلم-، وانقياده للهوى واتباعه له. وقلبٌأبيض قد أشرقفيه نور الإيمان وأزهر فيه مصباحه، فإذا عُرضت عليه الفتنة أنكرها وردَّها، فازدادنوره وإشراقه وقوته. والفتن التي تعرض على القلوب هي أسباب مرضها، وهي فتن الشهوات وفتن الشبهات،فتن الغي والضلال، فتن المعاصي والبدع، فتن الظلم والجهل، فالأولى: توجب فساد القصد والإرادة، والثانية: توجب فساد العلم والاعتقاد. وقد قسَّم الصحابة -رضي الله تعالى عنهم- القلوبإلى أربعة، كما صح عن حذيفة بن اليمان، القلوب أربعة: قلب أجردٌ فيه سراج يزهر فذلكقلب المؤمن، وقلبٌ أغلف فذلك قلب الكافر، وقلبٌ منكوس فذلك قلب المنافق، عرف ثمأنكر، وأبصر ثم عمى، وقلبٌ تمده مادتان: مادة إيمان ومادة نفاق وهو لما غلب عليهمنهما، فقوله: (قلبٌ أجرد)،أي: متجردٌ مما سوى الله ورسوله، فقد تجرد وسلم مما سوىالحق، وفيه سراج يزهر وهو مصباح الإيمان، فأشار بتجرده إلى سلامته من شبهات الباطلوشهوات الغي، وبحصول السراج فيه إلى إشراقه واستنارته بنور العلم والإيمان، وأشاربالقلب الأغلف إلى قلب الكافر؛ لأنه داخل في غلافه وغشائه، فلا يصل إليه نور العلموالإيمان، كما قال تعالى حاكيًا عن اليهود: {وَقَالُواْقُلُوبُنَا غُلْفٌ} [سورة البقرة: 88]، وهو: جمعأغلف، وهو الداخل في غلافه كقلف وأقلف، وهذه الغشاوة هي: الأكنة التي ضربها الله على قلوبهم عقوبة له على رد الحق والتكبر عن قبوله، فهيأكنة على القلوب، ووقر في الأسماع، وعمى في الأبصار، وهي الحجاب المستور عن العيونفي قوله تعالى: {وَإِذَاقَرَأْتَالْقُرآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِحِجَاباً مَّسْتُوراً *وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْأَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً} [الإسراء : 45- 46] ،فإذا ذكر لهذه القلوب تجريد التوحيد وتجريد المتابعة، ولّّى أصحابها على أدبارهمنفورًا، وأشار بالقلب المنكوس -وهو المكبوب- إلى قلب المنافق، كما قال تعالى: {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللّهُ أَرْكَسَهُمبِمَا كَسَبُواْ}[النساء: 88]، أي: نكسهم وردهم فيالباطل الذي كانوا فيه بسبب كسبهم وأعمالهم الباطلة، وهذا شر القلوب وأخبثها، فإنهيعتقد الباطل حقًّا ويوالي أصحابه والحق باطلاً ويعادى أهله،-فالله المستعان-. وأشار بالقلب الذي له مادتان إلى القلب الذي لم يتمكن فيه الإيمان ولم يزهر فيهسراجه؛حيث لم يتجرد للحق المحض الذي بعث الله بهرسوله؛بل فيه مادة منه ومادة من خلافه، فتارة يكون للكفرأقرب منه للإيمان، وتارة يكون للإيمان أقرب منه للكفر، والحكم للغالب وإليه يرجع.