أسباب الوضع والكذب على رسول الله:
أ- فقد كان أول هؤلاء هم الزنادقة الملحدون الذين أظهروا الإسلام وأبطنوا الكفر ووضعوا الأحاديث استخفافا بالدين وتلبيسا على المسلمين، قال حماد بن زيد بن درهم الأزدي: وضعت الزنادقة على رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعة عشر ألف حديث، وقال ابن عدي: لما أخذ عبد الكريم بن أبي العوجاء وأتي به محمد بن سليمان بن علي فأمر بضرب عنقه قال: والله لقد وضعت فيكم أربعة آلاف حديث.
وقد كان لهؤلاء الزنادقة أساليب خبيثة لدس أكاذيبهم، قال ابن الجوزي: وقد كان من هؤلاء من يتغفل الشيخ فيدس في كتابة ما ليس من حديثه فيرويه ذلك الشيخ ظنا منه أنه من حديثه.
ب- والصنف الثاني من هؤلاء أصحاب الأهواء والعصبيات المختلفة فمنهم أصحاب الفرق العقائدية، كالروافض والخوارج ومنكري الصفات وكل هؤلاء كان منهم من يستحل الكذب على الرسول صلى الله عليه وسلم، ولنصرة مذهبه وترويج اعتقاده، بل ظهر هذا الكذب أيضا في طوائف من المقلدين والمتفقهة من أتباع المذاهب الفقهية المعروفة فوضعوا الأحاديث نصرة لمذهبهم وطعنا في أئمة غيرهم، وكذلك كان الوضع بين كل متعصب لبلد أو قوم أو شخص نصرة لعصبية .
ج- وصنف ثالث من أهل الزهد والتدين الجاهل وضعوا الأحاديث ترغيبا في فضائل الأعمال بزعمهم وترهيبا من النار وكلما استحسنوا قولا لقائل نسبوه إلى الرسول ظنا أن هذا يفيد الدين ويرغب الناس فيه ويزيدهم تمسكا به، ولاشك أن هذا كان أعظم الكذب و أخبثه لأن أمر هؤلاء كان أكثر خفاء، لأنه لا يظن بهم السوء، وقال ابن الصلاح: وأشد هذه ضررا أهل الزهد لأنهم للثقة بهم، وتوسم الخير فيهم يقبل.
موضوعاتهم كثير ممن هو على نمطهم في الجهل ورقة الدين، وقال الحافظ بن حجر: ويلحق بالزهاد في ذلك المتفقهة الذين استجازوا نسبة ما دل عليه القياس إلى النبي.
د- وأما الصنف الرابع فهو قوم لم يتعمدوا الكذب وإنما وقع الموضوع في حديثهم غلطا كمن يضيف إلى النبي كلام بعض أصحابه، وكمن أبتلى بمن يدس في كتبه ما ليس منها، كما وقع لحماد بن سلمة وهو ثقة عابد مع ربيبة الكذاب عبد الكريم بن أبي العوجاء فقد دس في كتبة، وكما وقع لسفيان بن وكيع بن الجراح قال ابن حجر في التقريب: كان صدوقا إلا أنه ابتلى بوراقه فأدخل عليه ما ليس بحديثه أ. هـ. وكمن تدخل عليه آفة في حفظه أو بصره أو يختلط بآخر عمره. ولا شك أن هذا الصنف الرابع من أخفى الأصناف ومن أشدها ضررا.
قال ابن حجر: وهذا الصنف أخفى الأصناف لأنهم لم يتعمدوا الكذب مع وصفه بالصدق ومع ذلك فالضرر بهم شديد لدقة استخراج ذلك إلا من الأئمة النقاد، وأما باقي الأصناف فالأمر فيهم أسهل لأن كون تلك الأحاديث كذبا لا يخفى إلا على الأغبياء أ. هـ.
ولما تعددت أصناف الوضاع والكذابين والمنتحلين والمخطئين على هذا النحو فإن البلوى بوضع الحديث عمت وطمت وانتشر الحديث الموضوع في كل ناحية وفن من فنون العلم: انتشر في الوعظ على ألسنة القصاص والوعاظ وعلى ألسنة العامة تبعا لذلك وانتشر في كتب الفقه والعقائد والتفسير والتاريخ والسير والمغازي والوعظ وقد كان كثير ممن ألف في ذلك ليس من أهل التمييز بين الروايات الصحيحة والضعيفة، بل إن بعض المحققين جاء في كتبهم ومؤلفاتهم شيء من هذا الحديث المكذوب تسهلا منهم وإن كانوا أحيانا وإن كانوا أحيانا يبينون كذبه، كما وقع لابن جرير في تفسيره، وابن كثير، فكيف بما يوجد في الخازن والكشاف وغير ذلك، بل دخل بعض الموضوع أيضا في كتب السنن والمسانيد وهي كتب وضعت لجمع أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم وبيان سننه وهكذا لم يسلم باب من أبواب العلم الشرعي إلا ودخل فيه شيء من الضعيف والموضوع ففي أسماء الله وصفاته وأفعاله وخلقه وتكوينه وفي الرسالات وفي الملائكة والجنة والنار والكتب وفي جميع أبواب الفقه من عبادات ومعاملات وأخلاق وحدود وهكذا لا يكاد يخلوا كتاب واحد من كتب التراث إلا ودخل فيه شيء من الضعيف والواهي من الأحاديث بل من المكذوب والموضوع والمختلق اللهم إلا كتبا يسيرة محصت تمحيصا دقيقا وأجمعت الأمة على أن ما فيها صحيح سليم ثابت كصحيح البخاري ومسلم.
6- حفظ الله لحديث رسوله:
وبالرغم من أن البلوى كانت على هذا النحو عظيمة فإن الله الرحمن الرحيم بهذه الأمة المحمدية كما حفظ عليها قرآنها كذلك حفظ عليها سنة نبيها وذلك أن السنة مبينة القرآن وشارحته "وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم"، ولذلك لما قيل للإمام عبد الله بن المبارك" هذه الأحاديث المصنوعة" قال: يعيش لها جهابذة " إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون".
وقال الإمام ابن الجوزي: لما لم يمكن أحد أن يدخل في القرآن ما ليس منه أخذ أقوام يزيدون في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ويضعون عليه ما لم يقل فأنشأ الله علماء يذبون عن النقل، ويوضحون الصحيح ويفضحون القبيح وما أخلى الله منهم عصرا من الأعصار غير أن هذا الضرب قد قل في هذا الزمان فصار أعز من عنقاء مغرب، وبالفعل فقد كان حملة الحديث هم حماة الدين حقا وجهابذة الأمة صدقا، قال سفيان الثوري: الملائكة حراس السماء وأصحاب الحديث حراس الأرض، وذكر الحافظ الذهبي في طبقات الحفاظ أن هارون الرشيد أخذ زنديقا ليقتله فقال الزنديق: أين أنت من ألف حديث وضعتها، فقال الرشيد: أين أنت يا عدو الله من أبى إسحاق الفزاري وعبد الله بن المبارك ينخلانها فيخرجانها حرفا حرفا، نعم لقد نشأ في الأمة الإسلامية علماء الحديث الذين كانوا جبالا في الحفظ وأوعية عظيمة للعلم لم تعرف أمة قط مثلهم حفظا وتدقيقا ونقدا وتمييزا للأخبار وتفتيشا وراء كل كلمة حتى يعرف مخرجها والناطق بها، وهذا من خصوصيات هذه الأمة المرحومة.
ومن أجل ذلك عمد المحققون من المحدثين في كل عصر إلى تخليص حديث النبي مما انتحله الوضاعون وافتراه الكذابون أو أخطأ فيه المغفلون الجاهلون وقد كان عملهم في هذا الصدد موجها في السبل الآتية:
7- الخطوات التي اتبعها علماء الحديث من أجل حفظ السنة:
أ- وضع القواعد وتنظيم أعظم علم عرفته البشرية في نقد الأخبار وتمحيصها وتحقيقها وهو ما يعرف بعلم مصطلح الحديث.
ب- جمع ما صح من أحاديث النبي صلى الله علبه وسلم في كتب مستقلة كما فعل مالك بن أنس في الموطأ والبخاري ومسلم في صحيحيهما.
ج- تعقب المؤلفين المشهورين الذين تساهلوا في النقل الأحاديث وأوردوها في مؤلفاتهم سواء كانت مؤلفاتهم في التفسير أو الفقه أو المواعظ والحكم أو الحديث كما فعل ابن حجر في كتاب الكشاف للزمخشري وهو تفسير مشهور فجاء ابن حجر فخرج أحاديثه، وكما فعل الحافظ العراقي في إحياء علوم الدين حيث خرج الأحاديث الواردة فيه وبين درجة كل حديث في كتابه المسمى "المغني عن حمل الأسفار في الأسفار"، وكما فعل ابن حجر العسقلاني في كتابه" تلخيص الحبير بتخريج أحاديث الرافعي الكبير " وكما فعل الحافظ الزيلعي في كتابه "نصب الراية في تخريج أحاديث الهداية ". والهداية كتاب في الفقه الحنفي، وكما فعل شيخنا ناصر الدين في كتاب تخريج فقه السنة لسيد سابق، وفقه السيرة لمحمد الغزالي وغير ذلك من الكتب المشهورة.
د- تصنيف معاجم مستقلة للضعفاء والمتروكين والكذابين للتحذير منهم وبيان مرتباتهم وما أخطئوا فيه، ومن أشهر ما ألف في ذلك كتاب "الضعفاء" للبخاري، و"الضعفاء والمتروكون " للنسائي، و"الضعفاء والمتروكون " لابن السكن، وكذلك للحافظ البرقي ولأبي حاتم البستي والعقيلي، وكتاب الكامل لابن عدي و"الضعفاء والمتروكون " لابن الجوزي، و"ميزان الاعتدال في نقد الرجال "للذهبي، وكذلك كتب العلل التي تتبعت الأحاديث التي ظاهرها الصحة وباطنها المرض والضعف وقد ألف في ذلك البخاري ومسلم والترمذي وأحمد بن حنبل، وعلي بن المديني وأبو بكر بن الأثرم، والدارقطني وكثيرون آخرون.
هـ كتب ومصنفات أفردت الأحاديث الموضوعة بالتأليف:
وهذه كثيرة جدا ومن أشهرها: الأباطيل لأبي عبد الله الحسين بن إبراهيم الهمداني الجوزي المتوفى سنة 543 هجرية، والموضوعات الكبرى لابن الجوزي المتوفى سنة 597 هجرية، واللالي المصنوعة في الأحاديث الموضوعة للسيوطي، والفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة لمحمد بن يوسف الدمشقي المتوفى سنة 942 هجرية، وهذا العنوان نفسه للشوكاني المتوفى سنة 1250 هـ، والأسرار المرفوعة في الأحاديث الموضوعة لابن عراق المتوفى سنة 963 هـ، والأحاديث الضعيفة والموضوعة وأثرها السيئ في الأمة لشيخنا وأستاذنا محمد ناصر الدين الألباني أمد الله في عمره .
8- الوضاعون والكذابون يجتمعون على هدف واحد:
ذكرنا آنفا أن الوضاعون والكذابين كانوا فرقا شتى متباينة وكانت لهم أهداف مختلفة ولذلك شملت الأحاديث الواهية كل نواحي العقيدة والتشريع تقريبا، فوضع الشيء ونقيضه ومدح الشيء وضده.
وبالرغم من كل ذلك فإن هذا كله قد أفضى في النهاية إلى هدف واحد وغاية واحدة وهو تشويه الدين وتخريب العقائد، وجعل البدعة سنة، وجعل السنة بدعة، والإساءة إلى رسول رب العالمين بنسبة التناقض والركاكة إليه، وتعليق الأقوال الساقطة أو المنكرة بشخصه الشريف، وجعل الدين مجموعه من الخرافات والخزعبلات ولبس الحق بالباطل، وتفسير كتاب الله بما يجعله عند عامة الناس خرافة وأساطير، وكأن هؤلاء الوضاعين والكذابين قد اتفقوا حول هذه الغاية الواحدة والهدف الواحد، وفي النهاية ظهر الإسلام بمظهر مشوه
غريب، لا تمييز فيه بين شرك وتوحيد ولا بين بدعة وسنة، ولا بين حقيقة وخرافة، بل ولا بين معقول ولا معقول.